الشعر العربي المعاصر في مصر*
بتاريخ يوليو 04, 2018 بواسطة ADMIN
الشعر العربي المعاصر في مصر
الدكتور عزّ الدين إسماعيل حين تطلق كلمة (الحديث) وصفاً للشعر العربي لا يقصد بها ـ بداهة ـ معنى الحداثة, وإنما تشير الكلمة أساساً إلى حقبة من الزمن لها حدودها الخاصة ومعالمها المميزة; ومن هنا كان استخدام الكلمة وصفاً للعصر قد صار مألوفاً, فيقال عندئذٍ (العصر الحديث), ويقصد به الإطار الزمني الذي تتميز فيه معالم الحياة عنها في الأزمنة السابقة. ذلك بأن العصر الحديث هو العصر الذي أعقب العصور الوسطى والعصور القديمة قبلها. وربما اختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة إلى المسار التاريخي للحضارة الغربية, حيث أعقب العصور الوسطى عصر النهضة, ثم أعقبه العصور الحديثة هناك. وليس حتماً أن ينطبق هذا النموذج التاريخي الغربي على الحضارات الإنسانية الأخرى, ومنها الحضارة العربية الإسلامية التي ننتمي إليها. ومن ثم فإن حدود ما نسميه بالعصر الحديث في منطقتنا تختلف عنها من منظور الغرب لتاريخه الحديث. لقد جرى العرف على حسبان الحملة الفرنسية على مصر هي الحدث الذي يعلن بداية هذا العصر لدينا. ولكن لماذا يعد هذا الحدث بداية للعصر الحديث? لأول مرة كان على المماليك وجنودهم أن يواجهوا عدواً يتغلغل في الأرض حتى يصبح على مشارف القاهرة; ولأول مرة أدرك أولئك الفرسان, وأدرك المصريون معهم, أن فروسية العصور الوسطى لا تغني فتيلاً أمام طلقات المدافع التي أطلقها عليهم الجند الفرنسيون, ولاذ منهم من استطاع بالفرار, ووقعت القاهرة في أيدي الغزاة. ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر مجرد مغامرة حربية يثبت بها الفرنسيون لجيرانهم قدرتهم على مناوأتهم في شمال القارة الأفريقية, بل كانت غزواً يستهدف الاستيطان. ومن هنا فقد جهزت الحملة نفسها بكل الوسائل التي تمكنها من التغلغل في نسيج الحياة المصرية, فجلبت معها العلماء المختصين في المجالات المعرفية المختلفة, وما يحتاجون إليه من أجهزة علمية, وذلك لكي يدرسوا البيئة المصرية دراسة مسحية شاملة, تُيسر للفرنسيين استيطان البلاد والتغلغل في الحياة وإحكام السيطرة عليها. ومع ذلك لم يتمكن الفرنسيون من التغلغل في الأهالي وكسب مودتهم ومن ثم إحكام السيطرة عليهم, بل جاءت النتيجة على الضد مما كان متوقعاً; فقد ألهبت الحملة الشعور الوطني لدى الأهالي, الذين رأوا فيها غزواً لأرضهم, وعدواناً على حياتهم. هذا الشعور الوطني, الذي كان بمثابة رد فعل لسلوك الغزاة الذين تمكنوا من بسط نفوذهم على سائر البلاد, ما لبث أن تطور وتبلور على المستوى الشعبي في شكل مقاومة حادة وعنيفة ومثيرة, تمثلت في ثورة القاهرة الأولى ثم ثورة القاهرة الثانية, وفي الثورات الجزئية التي قامت في الأقاليم المختلفة, وكان معنى هذا أن الشعور الوطني امتد من العاصمة إلى الأقاليم, وبسط جناحيه على كل البلاد. ومن ثم لم يجد الفرنسيون أمام هذه اليقظة الوطنية وهذه الثورة الشعبية الشاملة مناصاً من التسليم آخر الأمر بإخفاق الحملة وما يترتب على هذا من ضرورة مغادرتهم البلاد. حقاً إن الحملة الفرنسية لا يمكن أن يقال إنها خلقت المشاعر الوطنية لدى المصريين, ولكن المؤكد أنها عملت على بروزها وتبلورها بوصفها إطاراً معنوياً يوحد قوى الشعب ويشحذها. ومنذ تلك اللحظة بدأ تحول جوهري في موقف الإنسان المصري من وطنه وأرضه; فقد كان من قبل ينظر إلى المماليك الذين يحكمون البلاد على أنهم أغراب, فكان موقفه إزاءهم سلبياً, لا يفرح لانتصاراتهم ولا يحزن لهزائمهم, وكان يترك لهم مهمة الدفاع عن البلاد, ما داموا هم السادة. أما الآن وقد تركوا الميدان هاربين, فقد كان طبيعياً أن يطرح الشعب سلبيته جانباً, وأن يخرج بنفسه للدفاع عن وجوده وعن مصيره. وهكذا تولد لدى المواطنين إحساس بالمسؤولية نحو الوطن, أخذ ينمو ويتطور إبان مرحلة الكفاح ضد الغزاة. ومنذ ذلك الوقت أخذ هذا الإحساس يزداد رسوخاً في ضمائر المصريين يوماً بعد يوم حتى وقتنا الراهن. إنه الإحساس الذي برز في الثورة العرابية, وفي ثورة 1919 , وثورة 1952 , وذلك على مستوى النضال السياسي; ولكنه هو كذلك الإحساس الذي كان دائماً حادياً لكل حركة من حركات النهضة على المستوى الاجتماعي والعلمي والأدبي والفني والثقافي بعامة. هذا هو المعْلم الأساسي الذي يمنح حقبة ما يسمى بالعصر الحديث خصوصيتها: استشعار المواطن مسؤوليته إزاء النهوض بالبلاد. ذلك بأنه على الرغم من نجاح الثورة الشعبية في حمل الفرنسيين الغزاة على مغادرة البلاد, وعلى الرغم من قصر المدة التي أقامها الفرنسيون في مصر نسبياً, لم يفت المصريين أن يدركوا ما جلبته الحملة معها من وسائل متقدمة في مجال الحرب وفي زمن السلم على السواء, وأن يدركوا أن هذه الوسائل لم تكن إلا ثمرة التقدم في العلوم المختلفة, لا سيما تلك العلوم التي لم يكن للمصريين نصيب من الاشتغال بها. لقد جلبت الحملة معها جهازاً للطباعة (مطبعة) يفي بأغراضها في مخاطبة الجماهير المصرية على نطاق واسع, كما يلبي حاجة العلماء الذين صحبوا الحملة لدراسة البيئة المصرية والمجتمع المصري إلى تسجيل بياناتهم وتقاريرهم وأبحاثهم بصفة عامة. وهكذا عرف المصريون المطبعة لأول مرة, وأدركوا أهميتها بوصفها وسيلة من وسائل الإسراع بالنهضة الشاملة للبلاد. إنها الوسيلة الأفضل للتواصل المعرفي على أوسع نطاق, عن طريق نشر الكلمة في أشكالها وأغراضها المختلفة, سواء منها السياسية أو العلمية أو الأدبية أو الثقافية. وهكذا يصبح ظهور المطبعة في المجتمع المصري مؤشراً إلى مرحلة جديدة من الانفتاح على ألوان من المعارف التي مكنت الآخر من القوة والتميز. وكان محمد علي حين تولى حكم البلاد قد أدرك هذه الحقيقة, وأدرك أن الدفاع عن البلاد لا يكون إلا بجيش قوي, يمتلئ بمشاعر الانتماء إلى الوطن, ولكنه في الوقت نفسه يأخذ بأسباب العلوم وما تنتهي إليه من كشوف. ومن هنا رأى محمد علي أن لا بد من إنشاء المدارس الفنية المختلفة, التي تمكنه من تكوين جيش حديث بمعنى الكلمة. وهكذا بدأت فكرة إرسال البعثات العلمية إلى الخارج; إلى إيطاليا وفرنسا بصفة خاصة, لكسب تلك المعارف التي تعد أساساً لبناء الجيش القوي. وكما يحدث في بعض الأحيان أن يفضي تحقيق هدف معين إلى تحقيق هدف آخر لم يكن في الحسبان, أفضى السعي إلى تحقيق بناء جيش قوي إلى تحقيق أهداف معرفية أخرى, كان لها فيما بعد أبعد الأثر في تشكيل الوعي المصري تشكيلاً جديداً. ذلك بأن أولئك المبعوثين قد حصلوا ما حصلوا من علوم بلغاتها الأجنبية. ولكي تتاح هذه العلوم للمقيمين من الدارسين كان لا بد من ترجمتها إلى العربية. ومن هنا برزت فكرة مدرسة الألسن, التي قام رفاعة الطهطاوي على إنشائها, لكي يناط بها أداء تلك المهمة. ومع ذلك فقد أدت مدرسة الألسن دوراً أكبر مما كان مقصوداً إليه منها في البداية; إذ لم يقتصر الأمر فيها على العناية بالعلوم العسكرية, بل جاوزها إلى بعض العلوم الإنسانية. وقد أنجز أبناء هذه المدرسة كثيراً من الترجمات التي كانت من أساسيات النهضة العلمية الحديثة. ويكفي ما اكتسبته اللغة العربية من غنى باستيعابها لكثير من مصطلحات تلك العلوم. وإذن فإلى جانب الانتماء الوطني القوي, والإحساس بالمسؤولية, كان هناك ذلك الوعي بقيمة المعارف والعلوم الأخرى التي تختلف عما كان متاحاً من معارف وعلوم, والتي ثبت أنها سر تقدم الغرب وقوته. والمفروض أن يكون هذا المحور الثاني تابعاً للمحور الأول ومعززاً له, وأن يُفهم أن الثقة فيه لا تكون بالضرورة على حساب المحور الأول. ولقد ولَّدت الحملة الفرنسية على مصر موقفاً درامياً من الطراز الأول. كان على المصريين أن يطردوا الفرنسيين بوصفهم غزاة يسعون إلى استعمار المنطقة; وهذا ما تحقق. ولكن هؤلاء الغزاة بعد ذلك هم الذين صار من المؤكد أنهم قد حازوا من العلوم والمعارف ما حققوا به قوتهم وتقدمهم, وأن تحصيل هذه العلوم والمعارف شرط أساسي لإحداث نهضة موازية في الحياة المصرية; وهذا ما تمثل في مشروع النهضة التي تغياها محمد علي. وهكذا أصبح (الآخر) المرفوض على مستوى هو نفسه الآخر المطلوب على مستوى غيره. ومنذ البداية, وعلى مدى الزمن طوال القرن التاسع عشر والقرن العشرين, استمر الجدل حول قيمة المتاح من تراثنا ومدى استجابته لمطالب الحياة التي تريد أن تلحق بركب التطور والتقدم, وحول مدى الحاجة إلى الأخذ عن الآخر. وهذا الموقف المتأرجح بين طرفين من الرؤية كلاهما يبدو صحيحاً, هو ما أصبح على مستوى الممارسة مولداً للانحيازات الإيديولوجية المختلفة, المتطرفة منها والتوفيقية, على مدى تلك الحقبة من الزمن حتى يومنا الراهن. هذا الموقف الدرامي الذي برز صبيحة الحملة الفرنسية على مصر, والذي كان له انعكاساته المختلفة على الفكر المصري وعلى إنجازاته المختلفة, هو ما يعين كذلك خصوصية ذلك العصر الذي نسميه (العصر الحديث). وهكذا تجتمع في العصر الحديث خصائصه الفارقة الآتية: ـ بروز الشعور الوطني واستشعار المسؤولية إزاء تحقيق نهضة جديدة للمجتمع. ـ إدراك ما لدى الآخر من وسائل القوة والسعي لتحصيلها. ـ التأرجح بين الموروث القديم والوافد الجديد. وعلى هذا فإن أي نشاط إنساني منتج في حدود هذا العصر يمكن أن يسمى حديثاً, بغض النظر عن موقعه وعن تصنيفه; ومن ذلك النشاط الأدبي بعامة, والشعري على وجه الخصوص. فكل شعر أنتج في هذه الحقبة فهو شعر حديث, بدءًا من شعر رفاعة الطهطاوي في القرن الماضي حتى آخر قصيدة كتبها أحدث شاعر في تسعينيات هذا القرن, بغض النظر عن أي تصنيف نوعي لهذا الشعر. ولهذا ينبغي ألا تختلط صفة (الحديث) للشعر بصفة (الحداثي) التي دخلت في الاستعمال مؤخراً للدلالة على توجه فني خاص في الأداء الشعري لدى فئة من الشعراء; فسواء أكان الشعر حداثيًا أم لم يكن فإنه آخر الأمر شعر حديث. الشعر الحديث إذن هو ذلك الشعر الذي قيل في العصر الحديث, والذي تقلب بين أشكال شتى من الأداء تتراوح بين أشد حالات التقليد وأبعد صور التجديد. ومن هنا كانت صفة المعاصرة حين نقول (الشعر المعاصر) دالة على مرحلة بعينها في حياة الشعر الحديث, هي المرحلة التي نعاصرها, وهي مرحلة متحركة لا تقبل التثبيت; فما يكون معاصراً اليوم سيأتي عليه زمن يخرج فيه من دائرة المعاصرة, مكتفيًا عندئذٍ بصفة الحداثة. لقد كان الشاعر أحمد شوقي ـ مثلاً ـ معاصراً للعقاد والمازني وغيرهما, ولكن عندما أراد شوقي ضيف فيما بعد أن يدرس شعر سِمِيِّه هذا اختار له صفة (شاعر العصر الحديث)(1) وليس (الشاعر المعاصر). وكما اقتضى الأمر التمييز بين (الحديث) و(الحداثي) وصفاً للشعر, تمس الحاجة كذلك إلى التمييز بين (المعاصر) و(العصري). وقد عرفنا معنى (المعاصر); أما (العصري) فصفة أطلقها الشاعر خليل مطران(2) على شعره ليجمع تحت هذا الوصف جملة من الخصائص التي تميز هذا الشعر عن غيره وتحدد ميزته الخاصة. وهذه العصرية التي نادى بها مطران واتسم بها شعره كانت تعني في مضمونها ما تعنيه صفة الحداثة حين تطلق على أحد تيارات الشعر المعاصر. |